في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٧

د. محمد جلال هاشم - 25-07-2020
في منهج التحليل الثقافي - الحلقة ٧ | د. محمد جلال هاشم

الحلقة رقم (7)
مفاكرات حول منهج التحليل الثقافي
الثقافة، الدّولة، الدّيموقراطيّة، الاستقلاليّة، الأيديولوجيا، والآفروعمومية


ولكن، من هم العرب؟
في الصراع الثقافي الناشب في السودان بخصوص هويته التي تتنازعها العروبة في جانب والأفريقية في الجانب الآخر، كثيراً ما نسمع أصواتاً ونقرأ آراءً تُعلن عن كراهيّتها للعرب كعرق وتحملهم المسئولية عن كلّ ما يعاني منه السودان فيما يلي هويته. حسناً! ولكن من هم العرب عرقياً؟ هل هم من نطلق عليهم محلياً عرب دارفور وكردفان الذين انحدروا في تسلسل نسبهم من قبائل جهينة وربيعة وشتيت قبائل أخرى؟ ولكن هل يعترف مركز العروبة بعربية هؤلاء حتى يصبح من ينتمون لأرومة العروبة في الجزيرة العربية والشام والعراق والخليج .. إلخ يتحمّلون مسئولية ما يحدث في السودان؟ ما هي مسئولية شخص عربي يعيش في السعودية أو الكويت مما يفعلُه أناس في دارفور ينسبون أنفسهم للعرب (بموجب نظرة مركز الهوية لهم)؟ ثم هل تشمل هذه اللعنة والإدانة المجانية كلّ العرب بالجملة (باعتبار أن هناك عرقاً اسمه العرب)، أي كلّ من ينتسبون للعروبة في شمال أفريقيا وخلافها؟ هل فعلاً ينتمي جميع من ينتسبون للعرب إلى عرق واحد ونقي؟ لا يوجد شخص عاقل يمكن أن يقول بهذا.
لتبيان دور الأيديولوجيا في خلق الوهم بوجود تمايزات عرقية بين بني البشر، دعونا نضرب مثلاً حيّاً من واقع سوداننا. اليوم في السودان لدينا أناس من نوبة الشمال ونوبة الجبال يؤمنون بأنهم عرب. فهل يعني هذا أنهم فعلاً قد أصبحوا عرباً بموجب إحساسهم هذا؟ وما هي الجهة المناط بها تحديد من هو العربي؟ والسؤال بطريقة أخرى، "صالح" أو "أدروب" أو حتى "ملوال"، أو فلنقل "كوكو" كشخص من جبال النوبة له لغته النوبية، بجانب إحساسه بهويته هذه بوصفها هوية غير عربية. ولكنه في مرحلة ما من حياته انتمى لحركة القوميين العرب (ولنقل "حزب البعث")، ومنذ ذلك الوقت لم يصبح ينظر لنفسه على أنه عربي فحسب، بل أصبح ينظر لجميع أهله بجبال النوبة على أنهم ليسوا عرباً فحسب، بل هم عرب العرب، كما ذهب إلى ذلك صلاح أحمد إبراهيم (الدنقلاوي) في خِمار شعواء أيديولوجية تلبّسته بغِمارها. حسناً! هل سيجعل هذا منه عربياً؟ وهل بموجب تبدّل نظرته لهويته ينبغي لجميع أهله أن يصبحوا عرباً؟ وماذا لو قام كوكو بعد فترة من هذا بالعدول عن فكر البعث العربي وأصبح أكثر انجذاباً وإيماناً بأفريقية هويته؟ هل يعني هذا أنه سوف يتوقف عن أن يكون عربياً؟ أقصرُ الإجابات بحسب علم أنثروبولوجيا الهويّة أنّه سيصير عربيّاً إذا اختار ذلك، بمثلما سيتوقّف عن أن يكون عربياً إذا تراجع عن هذا الاختيار. لكن ما يهمّنا هو وضعيّة أهله في مجموعهم إزاء وضعه هو فر فرديّته.
لاحظوا أن كل هذا يحدث خارج مركز الهوية العربية milieu of Arab identity وهو الجزيرة العربية. فالشاهد مما استعرضناه أن المركز العربي له معاييره لمن هو عربي بصرف النظر عن القناعات الأيديولوجية لذلك الشخص المعنى. ولكن، في نفس الوقت، هذا لا يعني بأي حال صمدانية عروبة العرب العاربة. فما استعرضناه من تماهٍ أيديولوجي بخصص كوكو ينطبق على جميع من يحملون بطاقة الهوية العربية، عاربةً ومستعربةً. وبهذا يمكن أن نخلص إلى أنه، علمياً، لا يوجد شيئ اسمه العرق العربي بموجب خصائص جوهرية substantive qualities تمتنع على غيرهم. بالتأكيد هذا لا ينفي وجود سمات traits سلالية بعينها يمكن لفحص الـ DNA أن يثبتها وتُسمى "عربية". لكن هذا بدوره لا يعني بأي حال من الأحوال وجود هذه السمات السلالية كعنصر منفرد ومنحصر في مجموعة بشرية بعينها بما يسمح بالزعم بالنقاء العرقي. كما لا يعني بالمرة أن هذه التباينات تقف دليلاً على وجود فروقات عرقية، عنصرية بين البشر. فالبشر ينتمون لعرق واحد كونهم جميعاً يمثّلون نوعاً واحداً one species، مع تمايزات سماتية لا ترقى لتشكيل عرق أو نوع مخالف. أمّا ما تبدو على أنّها اختلافات بين البشر من حيث السّحنة والطّول والقصر .. إلخ، فجميعُها ممّا يمكن فهمُه على أنّه يحدث داخل النّوع الواحد.

ما هي العنصريّة؟
من بين عدّة تعريفات، يمكننا أن نصوغ تعريفاً إجرائيّاً للعنصرية يخدم أغراض هذا الكتاب والمفاهيم التي يحاول شرحها والتّعريف بها على النّحو التّالي: العنصريّة في جوهرها هي الإحساس الدّاخلي بالتّفوّق، وما يستدعيه هذا من الإحساس بالتّميّز بالضّرورة، استناداً على مزاعم بالرّقيّ العرقي ونقائه في مواجهة أعراق أخرى أقلّ رقيّاً أو منحطّة بمحض انتمائها السّلالي. ومربط تعريفنا للعنصريّة هو ربطُها بعاملين أساسيّين، هما الإحساس (الوعي الذّاتي) والعرق (الأيديولوجيا). وهذا يكشف زيف العنصريّة كونها تستند على أحكام ذاتيّة قوامها الإحساس الدّاخلي والأيديولوجيا، وهي أشياء ليس لها وجود موضوعي خارج الذّات. وقلنا في تعريفنا للعنصريّة إنّها "في جوهرها"، لأنّ هذا هو منبعُها ومبتداها، وليتها كانت تقف عند هذا الحدّ. فالعنصريّة بوصفها أيديولوجيا عادةً ما تلتبس بالثّقافة من جانب، ثم تستند على السّلطة من الجانب الآخر. فهي تلتبس بالثّقافة لتجييرها لصالحها، بما يعني عمليّاً إفقاد الثّقافة لإنسانيّتها ووجه الجمال والأخلاق فيها. أمّا قولُنا إنّها تستند على السّلطة، فهو قولٌ مقلوب اقتضته تكتيكات الخطاب، ذلك لأنّ السّلطة هي التي تستند على العنصريّة في أغلب أحوالها، ذلك في سعيها لاصطناع أيديولوجيا بها تبرّر نفسَها ثمّ تستقوي بها. وليس أنجع في مثل هذه الأحوال من الزّعم بالتّفوّق العرقي ونقائه كمبرّر للتّسلّط.
يمكن تقسيم العنصريّة إلى نوعين؛ الأوّل هو العنصريّة الاجتماعيّة غير المسنودة بالقانون، أي غير مسنودة بمؤسّسة الدّولة. أمّا القسم الثّاني فهو العنصريّة البنيويّة، أي المنصوص عليها في بنية الدّولة من حيث القوانين والمؤسّسات. وبالطّبع، عادةً ما يقود الأوّل إلى الثّاني، إذ يخدم بمثابة الأرضيّة التي تنشأ عليها العنصريّة البنيويّة. ففي حالات كثيرة تكون هناك عنصريّة اجتماعيّة راسخة دون أن تصعد إلى المستوى السّياسي بنيويّاً، أي عبر القانون والمؤسّسات التي تقوم عليها الدّولة. لكنّها لا محالة، وقليلاً، قليلاً، سوف تتحوّل إلى عنصريّة بنيويّة عبر تشكيل مؤسّسة الحكومة (ليس الدّولة حتّى هذه المرحلة)، أكان ذلك عبر الانتخابات أو أي آليّات للتّصعيد. فقد يسقط شخص في الانتخابات لا لشيء سوى للعنصريّة الاجتماعيّة الراسخة في المجتمع التي تنظر إليه بوصفه شخصاً لا يستحقّ أن يصوّت له النّاخبون الذين ينتمون في غالبهم الأعمّ لهذه العنصريّة الاجتماعيّة. ولنلاحظ كيف لعبت هذه العنصريّة الاجتماعيّة كسلوك اجتماعي في تشكيل مؤسّسات الدّولة، أي تحوّلها من عنصريّة اجتماعيّة إلى عنصريّة بنيويّة. وفي الحقِّ، ما من عنصريّة اجتماعيّة راسخة إلاّ وتحوّلت مع الزّمن إلى عنصريّة بنيويّة.
للعنصريّة الاجتماعيّة ضحايا أساسيّون وضحايا ثانويّون! الضّحايا الأساسيّون هم نفس الأشخاص الذين يمارسون العنصريّة. هؤلاء هم الضّحايا الأساسيّون للعنصريّة! فالعنصريّة مرضٌ عُضال يقعد بالحضارات ويُحيلُها إلى حالة من حالات الفشل المقيم. والشّخص العنصري هو شخص غير سويّ، وقد تبلغ به حالتُه المرضيّة حدّ أن تصبح إحالتُه للعلاج النفسي ضرورة. أمّا الضّحايا الثّانويّون فهم ليسوا الأشخاص الذين تُمارسُ عليهم العنصريّة بعموم، بل هم الأشخاص الذين تُمارسُ عليهم العنصريّة الاجتماعيّة ثمّ تنجح في أن تفعلَ فيهم فِعلَها بأن تجعلَهم يشعرون بالدّونيّة ونقص الذّات. ولا عبرة هنا بردود أفعالهم، أكانت في شكل عنصريّة مضادّة (على مجازيّة هذا التّعبير)، كأن يشعروا بكراهيّة من يمارسون هذه العنصريّة، أو بالتّعدّي البدني وغيره. إذ تبقى حقيقة أنّهم قد أصبحوا ضحايا ثانويّين لهذه العنصريّة، ذلك لضعف شكيمتهم الفكريّة وهشاشة شخصيّاتهم وفراغ ذواتهم من ذاتِهم.
كذلك للعنصريّة البنيويّة ضحايا أساسيّون وضحايا ثانويّون. بالطّبع الضّحايا الأساسيّون هي الدّولة ممثّلة في قوانينها ومؤسّساتها العنصريّة، وتبعاً لها الحكومة بوصفها الجهة المناط بها إنفاذ القوانين وحراسة المؤسّسات. أمّا الضّحايا الثّانويّون فهم المجموعات الثّقافيّة والإثنيّة التي تُمارس عليهم هذه العنصريّة. ومكمن أساسيّة الدّولة (والحكومة) كضحايا يعود إلى حقيقة بسيطة يؤكّدها لنا التّاريخ قديماً وحديثاً، ألا وهي أنّ العنصريّة البنيويّة لا تنتهي إلاّ بتفكيك الدّولة العنصريّة، وإلاّ انتهى الأمر بانهيار تلك الدّولة. كما تعود ثانويّة المجموعات الثّقافيّة والإثنيّة التي تُمارس عليهم العنصريّة كضحايا إلى حقيقة بسيطة يا طالما أكّدها بدوره التّاريخ، ألا وهي أنّ هذه المجموعات هي التي سوف تبقى وتنتصر، طال الزّمن أم قصُر.
تُرى ما هي الوجهة التي تعمل العنصريّة بشقّيها إلى الوصول إليها في سبيل تمكين نفسها وتكريس وضعها؟ إنّها تعمل في سبيل تحويل الضّحايا الثّانويّين إلى ضحايا أساسيّين، بأن يتمّ تكريس إحساسهم بالدّونيّة في أعمق أعماق وعيهم المباشر وغير المباشر. وهنا لا تهمّ ردّة فعل هؤلاء الذين تُمارس عليهم هذه العنصريّة في حال تحوّلهم لضحايا أساسيّين، مهما بلغ بها العنف والغضب. فما دام أنّهم قد أصبحوا ضحايا أساسيّين، فعندها يكونوا قد أصبحوا جزءاً من الأزمة، لا جزءاً من الحلّ. فمهما ثاروا وأعلنوا عن غضبهم فكلُّ ذلك لا يعدو كونه "فرفرة" مذبوحين. فعندما يكون هناك موقف يتعرّض فيه شخص ما للعنصريّة، الاجتماعيّة بوجه خاص، فعندها سوف تنفلق حبّة الموقف عن سيناريو واحد من بين إثنين: السّيناريو الأوّل: أن ينظر إلى الشّخص الذي يُمارِسُ عليه هذه العنصريّة بوصفه شخصاً يعاني من مرض ثقافي وحضاري ويحتاج لعلاج، وبالتّالي يكون قد نظر إلى السّلوك العنصري بوصفه شيئاً لا يعنيه في قليل أو كثير، بوصفه سلوكاً لا يبوء به إلاّ من يمارسُه. السّيناريو الثّاني: أن يثور ويغضب مُزبداً في وجه من يُمارِسُ عليه هذه العنصريّة، كاشفاً بذلك أنّه في الواقع قد تحوّل إلى ضحيّة أساسيّة لهذه العنصريّة، وأنّها تفعلُ فيه فعْلَها من حيث تكريس إحساسه بالدّونيّة والوضاعة العرقيّة. وما الغضب في الحقيقة إلاّ لترفيع وعي هذه الضّحيّة بحقيقة وضاعته ودونيّته من حيّز الوعي غير المباشر إلى حيّز الوعي المباشر.
هنا علينا أن نلاحظ أنّه بينما شخصيّة السّيناريو الثّاني هي فعلاً ضحيّة أساسيّة للعنصريّة، نجد أنّ شخصيّة السّيناريو الأوّل هي شخصيّة متحرّرة من العنصريّة وبالتّالي لا تهُزُّ فيها هذه العنصريّة شعرةً من رأسها كونها متماسكة داخليّاً وممتلئةً في ذاتِها بذاتِها. وبالطّبع، لا يعني موقفُها هذا أيّ تهاون منها في اتّخاذ كلّ ما هو ضروري للقضاء على هذه العنصريّة، اجتماعيّةً وبنيويّاً، إن سلماً أو حرباً.